- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم ّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الحكمة من تشريع الصّيام :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربما كان هذا اليوم الأخير من أيام شهر رمضان ، أو ربما كان اليوم قبل الأخير ، على كل نودع هذا الشهر الكريم ، نودع شهر رمضان شهر التوبة والغفران ، شهر الإحسان والقرآن ، شهر القرب والرحمة ، شهر الزلفى والتقوى .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لقد شرع الصيام لتقوية إرادة الإنسان على طاعة ربه، ولتنمية الإخلاص في قلبه ، ولتمتين الصلة بخالقه ، ولترسيخ معاني العبودية له ، فلو أديت العبادات - والصيام من العبادات - على النحو الذي أراد الله عز وجل لجعلت من المؤمن شخصية فذة ، لو أديت على نحو آخر فكانت جوفاء ، لا معنى لها ، تنقلب العبادات إلى طقوس ، لو أديت العبادات ، الصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، على النحو الذي أراد الله ، لجعلت من المؤمن شخصية فذة ، إليها تنجذب النفوس ، وبها تتعلق الأبصار ، ومن نورها تهتدي القلوب ، لو أديت العبادات على النحو الذي أراد الله عز وجل لجعلت من الإنسان رجلاً نير الذهن والقلب معاً ، حاد البصر والبصيرة ، تتعانق فكرته وعاطفته ، فلا تدري أيهما أسبق صدق أدبه أم حسن معرفته ؟ ولا تدري أيهما أروع خصوبة نفسه الجياشة أم فطانة عقله اللماح؟ لو أديت العبادات على النحو الذي أراد الله لجعلت المؤمن ذا أفق واسع ، ونظر حاد ، ومحاكمة سليمة ، لجعلته منغرساً في سعادة لا تقوى متع الأرض الحسية أن تصرفه عنها ، ولجعلته ذا أخلاق أصيلة ، لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة ، ولا سياط الجلادين اللاذعة أن تقوضها .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ المؤمن الحق - كما أراده الله أن يكون - كالجبل رسوخاً، وكالصخر صلابة ، وكالشمس ضياء ، وكالبركان تدفقاً ، وكالبحر عمقاً، وكالسماء صفاء ، وكالربيع نضارة ، وكالماء عذوبة ، وكالعذراء حياء ، وكالطفل وداعة .
بطولة الإنسان صيام جوارحه عن المعصية في رمضان و بعد رمضان :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لقد كان الصيام من أجل انتصار الإنسان على نفسه ، كي يقودها نحو سعادتها الأبدية ، فقد ركب الملك من عقل بلا شهوة ، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل ، وركب الإنسان من كليهما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان .
أيها الأخوة ؛ ليست البطولة أن ننتصر على النفس في رمضان ، ثم ننخذل أمامها بقية العام ، ولكن البطولة أن نحافظ على هذا النصر ، على طول الدوران ، وتقلبات الزمان والمكان ، ليست البطولة أن نضبط ألسنتنا في رمضان فننزهها عن الغيبة والنميمة وقول الزور ثم نطلقها بعد رمضان إلى حيث الكذب والبهتان ، لكن البطولة أن تستقيم منا الألسنة ، وأن تصلح فينا القلوب ما دامت الأرواح في الأبدان ، ليست البطولة أيها الأخوة أن نغض أبصارنا عن محارم الله ، وأن نضبط شهواتنا غير المشروعة في رمضان ثم نعود إلى ما كنا عليه بعد رمضان ، إنا إذاً :
﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً﴾
لكن البطولة أن تصوم جوارحنا عن كل معصية ، في رمضان وبعد رمضان ، حتى تلقى الواحد الديان .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ليست البطولة أن نتحرى الحلال في رمضان خوفاً من أن يرد علينا صيامنا ، ثم نتهاون في تحريه بعد رمضان على أنه عادة من عوائدنا ، ونمط شائع من سلوكنا ، ولكن البطولة أن يكون الورع مبدأ ثابتاً ، وسلوكاً مستمراً ، ليست البطولة أن نبتعد عن المجالس التي لا ترضي الله إكراماً لشهر رمضان ، ثم نعود إليها وكأن الله عز وجل ليس لنا بالمرصاد في بقية الشهور والأعوام ، ليست البطولة أن نراقب الله في أداء واجباتنا وأعمالنا ما دمنا صائمين ، فإذا ودعنا شهر الصيام آثرنا حظوظ أنفسنا على أمانة أعمالنا وواجباتنا .
أيها الأخوة الأكارم : مثل هذا الإنسان لم يفقه حقيقة الصيام ، ولا جوهر الإسلام، إنه كالناقة عقلها أهلها ثم أطلقوها فلا تدري لم عقلت ولا لم أطلقت ؟ لا يدري لم صام ولا لم أفطر ؟
أبواب التوبة مفتوحة على مصاريعها في كل أشهر العام :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع أن شهر رمضان شهر التوبة والغفران ولكن هذا لا يعني أن التوبة مقصورة عليه ، محصورة فيه ، بل إن أبواب التوبة مفتحة على مصاريعها في كل أشهر العام ، هذه الكلمة لمن قصر في رمضان ، أبواب التوبة مفتوحة على مصاريعها في كل أشهر العام ، كيف لا والله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم :
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
إنه جلا وعلا يدعو المسرفين إلى التوبة ، فكيف بالمقتصدين ؟ كيف لا والحق جلا وعلا في كتابه العزيز قال :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ﴾
والتوبة النصوح كما قال بعض العلماء : الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع عن الذنب ، كيف لا وفي الحديث القدسي عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال : سمعت رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : قال الله تعالى :
((يا بْنَ آدَمَ إَّنكَ ما دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ ما كانَ منْكَ وَ لا أُبالي ، يا بْنَ آدَمَ ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ ، يا بْنَ آدَمَ ! لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطايَا ثُمَّ أتَيْتنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِها مَغْفِرَةً ))
كيف لا ؟
((و الله أفرح بتوبة التائب من الظمآن الوارد ، ومن العقيم الوالد ، ومن الضال الواجد ، فمن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه وجوارحه وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ))
عوامل تجعل الذنب الصغير كبيراً :
أيها الأخوة ؛ لقد بيّن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ما تعظم به صغائر الذنوب فأدرج منها الإصرار والمواظبة ، إذ لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار ، من هذه الملاحظات ، أو من هذه العوامل التي تجعل الذنب الصغير كبيراً أن تصر عليه ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( لاَ صَغِيَرَةَ مَعَ الإِصْرَارِ ، وَلاَ كَبِيرَةَ مَعَ الاسْتِغْفَارِ ))
إنك إذا كنت على طريق مستقيم ، وتقود مركبة ، فلو انحرفت بالمقود قيد أنملة ، هذا الانحراف إذا استمر لابد من أن تخرج عن الطريق .
فالصغيرة انحراف مع الاستمرار ، واستمرار الانحراف يخرجك عن جادة الصواب، ولا كبيرة مع الاستغفار ، لو أنك حرفت المقود انحرافاً كبيراً ثم انتبهت فأعدته فجأةً تبقى على الطريق الصحيح .
(( لاَ صَغِيَرَةَ مَعَ الإِصْرَارِ ، وَلاَ كَبِيرَةَ مَعَ الاسْتِغْفَارِ ))
أيها الأخوة ؛ من العوامل التي تجعل الذنب الصغير كبيراً أن تستصغره ، فالذنب كلما استعظمه العبد في نفسه صغر عند الله ، وكلما استصغره العبد في نفسه كبر عند الله ، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري :
((المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه ، والمنافق يرى ذنبه كذباب مرّ على أنفه فأطاره ))
عامل آخر يجعل الذنب الصغير كبيراً . العامل الأول : أن تصر عليه .
العامل الثاني : أن تستصغره ، إذاً هو كبير . العامل الثالث : أن تظهر الذنب ، وأن تتهاون بستر الله عليك ، وحلمه عنك ، وإمهاله إياك . قيل : لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت ، هذا ذنبك ، وقد يضرك ذنب أخيك ، ذنب أخيك قد يضرك ، قال عليه الصلاة والسلام :
((الذنب شؤم على غير فاعله ؛ إن عيره ابتلي به ، وإن اغتابه أثم ، وإن رضي به شاركه ))
إذا رأيت أخاك قد وقع في ذنب لا ينبغي أن تفضحه ، لا ينبغي أن تعين الشيطان عليه ، لا ينبغي أن تشهر به ، هذا أول موقف ، ولا ينبغي أن تعيره ، وكأنك في حرز حريز ، إنك إذاً تعتمد على نفسك ، إنك إذاً معتز بنفسك ، وإذا عيره ابتلي به ، وإذا رضيه فقد شاركه في الإثم ، من شهد معصية فأنكرها كان كمن غاب عنها ، ومن غاب عن معصية فرضي بها كان كمن شهدها ، لذلك قيل : لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت . كيف لا والحق جلا وعلا يقول في الحديث القدسي :
((..أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل طاعتي أهل كرامتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ؛ فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب...))
كيف لا وإذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السموات والأرض أن أيتها الخلائق هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله .
التوبة علم وحال وفعل :
أيها الأخوة الأكارم ؛ أسوق هذه الأفكار لمن قصر في رمضان ، باب التوبة مفتوح على مصراعيه طوال أشهر العام ، التوبة أيها الأخوة علم وحال وفعل ، لابد من أن تعلم حتى تعلم أنك مذنب ، كيف تعلم أنك مذنب إن لم تتعلم أحكام الله عز وجل ؟ كيف تعلم أنك مذنب إن لم تحضر مجالس العلم ؟ كيف تعلم أنك مذنب إن لم تتفقه في أمر دينك ؟ كيف تعلم أنك مذنب إن لم تفهم كتاب الله ؟ التوبة شرطها الأساسي أن تعلم ، أن تعلم الحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، والغي من الرشد ، والفساد من الإصلاح ، فهي علم وحال ، حال قلبي ، وعمل ، فهي علم لأنها معرفة بضرر الذنوب ، وكيف أن هذه الذنوب حجاب لك عن المحبوب، وهذا العلم أيها الأخوة يولد حالة نفسية هي الشعور بالندم ، علامة صحة التوبة أن تشعر بالندم، ما الذي جعلك تندم ؟ علمك بما اقترفت يمينك ، وهذا الندم على شيئين ، على ما اقترف العبد من الذنوب ، وعلى ما فاته من الخيرات ، هذه الحالة النفسية التي هي الندم تولد إرادة وقصداً إلى فعل تعلق بالحال ، وبالماضي ، وبالاستقبال ، علم ، فندم ، فعمل ، العمل بعضه في الحال ، وبعضه في الماضي ، وبعضه في الاستقبال ، فالتائب يترك الذنب الذي كان متلبساً به في الحال ، والتائب يعزم بقلبه على ألا يعود إليه في الاستقبال ، والتائب يسعى لإصلاح ما كان منه في الماضي ، وقد لخص النبي عليه الصلاة والسلام كل هذه الشروط وتلك المعاني بكلمة واحدة ، كان عليه الصلاة والسلام كما يقول عن نفسه :
((قد أوتيت جوامع الكلم))
قال عليه الصلاة والسلام :
((الندم توبة))
أين العلم ؟ وأين العمل ؟ يذكر النبي عليه أتمّ الصلاة والسلام أن الندم توبة ، العلماء قالوا : الندم لا يخلو من علم أوجبه ، ولا يخلو من عمل أثمره .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ومع أن رمضان شهر العمل الصالح والقربات ، ولكن هذا لا يعني أن فرص العمل الصالح قاصرة على هذا الشهر ، بل إن أبواب الخير مفتحة في كل الشهور، ومسالك القرب نافذة في كل الأوقات .
العمل الصالح قوام حياة النفس :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ العمل الصالح قوام حياة النفس ، كما أن الطعام والشراب قوام حياة الجسد ، والفقر في حقيقته ، أدق تعريف للفقر ، الفقر من العمل الصالح والغنى في جوهره وفرة العمل الصالح ، سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، حينما سقى لابنتي سيدنا شعيب قال :
﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾
يا ربي أنا مفتقر إلى العمل الصالح .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإمام سيدنا علي كرم الله وجهه يقول :" الغنى والفقر بعد العرض على الله " ، إذا صحّ أن المعاصي والمخالفات ، عقبات كؤود في الطريق إلى الله عز وجل ، وأن التوبة النصوح إزالة لهذه العقبات ، بحيث يصبح الطريق إلى الله سالكاً وآمناً ، إذا صح ذلك ، يصح أيضاً أن العمل الصالح تحرك وتقدم على هذا الطريق ، التوبة وترك الذنوب إزالة للعقبات التي على طريق الإيمان ، ولكن العمل الصالح تحرك على هذا الطريق ، قال تعالى :
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ العمل الصالح هو المظهر العملي للإيمان ، الإيمان إقرار باللسان ، اعتقاد في القلب ، إحساس داخلي ، هذا المظهر الداخلي ، فأين المظهر الخارجي ؟ المظهر الخارجي هو العمل الصالح ، وهو مشعر به ، مؤكد لوجوده ، دال على صحته ، لذلك قرن العمل الصالح بالإيمان في أكثر من مئة آية في كتاب الله ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
أيها الأخوة المؤمنون ؛ بل إن مكانة المؤمن عند الله يحددها حجم عمله الصالح، قال تعالى :
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
وإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيم استعملك ؟ بل إن تحريك هذا المقام ورفع مستواه لا يتم إلا بالعمل الصالح ، قال تعالى :
﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾
شروط العمل الصالح للعرض على الله :
ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان صالحاً للعرض على الله عز وجل ، والحق جل وعلا لا يتقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم ، فقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :
((أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ))
فالدرهم الذي ينفق في إخلاص خير من ألف درهم ينفق في رياء ، وقد وصف الله تعالى إخلاص المؤمنين فقال :
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ولا يكون العمل الصالح صالحاً إلا إذا سلم من التخليط، والتخليط أن يخلط المرء عملاً صالحاً بآخر سيئاً ، فقد روي أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :
((ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط))
((من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بسائر عمله شيئاً))
تقديم العمل الصالح على العبادة لأنه ثمرتها ودليل صحتها :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ربما كان العمل الصالح مقدماً على العبادة لأنه ثمرتها ، ودليل صحتها ، فقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن عمر :
((لأن أعين أخي المؤمن على حاجته أحب إلي من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام ))
((فالخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ))
وقد كان ابن عباس - دققوا أيها الأخوة في هذه القصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما معتكفاً في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فخرج من المسجد ليمشي في حاجة أخ له ، فقيل له : أنسيت أنك معتكف ؟ قال : لا ولكنني سمعت صاحب هذا القبر - والعهد به قريب ، فدمعت عيناه - وهو يقول : " من مشى في حاجة أخيه ، وبلغ فيها ، كان أفضل له من اعتكافِ عشر سنين " وقد سأل زيد الخير رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يا رسول الله ! ما علامة الله فيمن يريد ؟ هؤلاء الذين يحبهم الله عز وجل ما علامتهم ؟ هؤلاء الذين يريدهم الله عز وجل ما صفتهم ؟ ما علامة الله فيمن يريد ؟ وما علامته فيمن لا يريد ؟ فقال : يا زيد كيف أصبحت؟ قال : أصبحت أحب الخير ، وأهله ، وإن قدرت عليه بادرت إليه ، وإن فاتني حزنت عليه ، وحننت إليه ، فقال عليه الصلاة والسلام : هذه علامة الله فيمن يريد ، أحب الخير ، وأهله ، وإن قدرت عليه بادرت إليه ، وإن فاتني حزنت عليه ، وحننت إليه ، هذا مقياس دقيق ، إذا كنت ممن يحبهم الله ورسوله ، فيجب أن تكون هذه صفتك .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا يمنعنكم من اصطناع المعروف للناس جحودهم ، وإساءتهم ، فقد روى مالك عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما ، عن علي كرم الله وجهه أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :
((اصنع المعروف إلى من هو أهله ، وإلى غير أهله ، فإن أصبت أهله أصبت أهله ، وإن لم تصب أهله كنت أنت أهله ))
أيها الأخوة المؤمنون ؛ أردت في هذه الخطبة التي تقع في اليوم الأخير أو قبل الأخير من رمضان ، أن يفتح أمامكم باب الأمل ، باب الرجاء ، التوبة والعمل الصالح أبوابهما مفتحة ، طوال أشهر العام ، فمن فاته رمضان ، فعليه أن يبدأ في شوال ، عليه أن يتوب في شوال ، والله سبحانه وتعالى - كما مرّ بكم - أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد ، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد .
أيها الأخوة الأكارم : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
العلم :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ أذكركم بحديثين للنبي عليه الصلاة والسلام ، متعلقان بالخطبة ؛ الحديث الأول : عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال :
((اغتنم خمسا قبل خمس ؛ شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ))
((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ؛ عن شبابه فيم أبلاه؟))
هذه الفورة ، هذه الطاقة ، هذا الإقدام ، ذلك الاندفاع ، هذا الفكر النير ، هذه العضلات المفتولة ، هذا الوقت الممتد ، أين أنفقت هذا كله ؟ في القيل والقال .
(( يحشر الأغنياء أربع فرق يوم القيامة ؛ فريق جمع المال من حرام وأنفقه في حرام ، يقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حرام وأنفقه في حلال ، فيقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حلال ، وأنفقه في حرام ، فيقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حلال وأنفقه في حلال ، يقال : هذا قفوه فاسألوه هل ضيع حقوق جيرانه ؟ هل تاه على خلق الله ؟ هل ضيع من أجل ماله صلاة ؟ هل قصر في حق من حوله ؟ حتى قالوا: يا رب لقد أغنيته بين أظهرنا فقصر في حقنا ))
((..وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟))
أنا أريد آخر واحدة .
((...وعن علمه ماذا عمل به ؟))
هذا الذي قيل في هذه الخطبة سوف نسأل جميعاً عنه ، أنا معك اسأل ، كل إنساناً يسأل عن علمه ، ماذا عمل به ؟
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن
***
تعلموا ما شئتم ، فو الله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم ، كل علم وبال على صاحبه ، ما لم يعمل به ، العلم علمان ، علم اللسان ، حجة على ابن آدم ، القضية مصيرية .
فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛
((..وعن علمه ماذا عمل به ؟ ))
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .